تحرّكت تجاعيد وجهه لتشكّل تعبيرا ما بين الساخر والمشفق، تحتفي بسنّه
الذهبية وهي تدلّنا أنه على وشك أن يقول شيئا وبصوت يحمل كل ثقة ممكنة
قال:
-أحبُّ العلم ما كان اكتساباً
طبعا لم يكن صعبا على أمّي على بساطتها أن تميّز أن عمي الحاج لا يغادر
لهجته القروية إلى اللغة الفصيحة إلا أن يكون قال شيئا مهمّا وصحيحا
...كما كانت عادته... ولا أعرف ما الذي فهمته أمي بالضبط لكنها بالفعل
تركتني يومها آكل حبّة التين التي التقطتها من أدنى الأغصان إليّ ،حيث
كان احتماؤها في ظلّ الأغصان الأخرى سببا في أنّها لم تنضج مع أختها
التي في يد أخي إذ كان أشجع مني في تسلّق الشجرة فكانت حبّة التين في
يده أقرب للشمس. في صباح اليوم التالي سمعت حديث عمّي العجوز وهو
يتحدّث عن الماء لأمي وعندما مررت من "الحاكورة" لاحظت أنّه يشير للبئر
من على المصطبة حيث هما جالسان، وأظنّ أنه كان يفاضل بين ماء المطر
وماء البلديّة وذكر شيئا ما عن عيون الماء والينابيع. قاطعته أمّي
بلهفة منادية عليّ :
- كنّا بسيرتك... تعال ... كل ولأنني خفت أن ينقبض فمي من حبّة التين
في يدها كما بالأمس ، ترددت قليلا لكنني تفاجأت بطعمها يذوب سكّرا في
فمي وقد ازداد بؤبؤ عيني اتساعا من نشوة الطعم.
ومنذ ذلك الحين ارتبط طعم التين الناضج اللذيذ بابتسامة الرضى التي
حطّت على وجه عمي العجوز عندما تأكّد أنني الآن فقط أستطيع التمييز بين
تينة وأخرى وأنني كنت بالأمس على خطأ إذ عصيت أمّي والتهمت حبّة التين
"الفجّة" تلك. جلست أسترجع هذه القصة من ذاكرتي ، ولم أستطع ألاّ أحاول
تذكّر حديث عمي عن الماء فقد كان مثيرا لي نوعا ما ذلك التناقض بين ما
سمعته أنا عن الماء وما ادّعته أمّي موضوعا للحديث "سيرتي".
في الجهة المقابلة من النهر وبعد أكثر من عشرين عاماً، اتصلت بي صديقتي
وزميلتي (ميس عرقسوسي) تطلب إليّ الحضور لاجتماع ما وهي تعرف من مكان
ما أيضا أنّ موضوعه يهمّني جدّا ،... مممم.. لنر! لابدّ أنه أمر
حدّثتها عنه ...لطالما أزعجتها هي وبقيّة فريق الملتقى التربوي العربي
، وأنا أنطلق في الحديث بلا نهاية عن أشياء كثيرة ... كان ذلك في أواخر
السنة الماضية والتي أظنها الأغرب في التاريخ العربيّ الحديث كلّه...
وكان الاجتماع الأوّل للهيئة التأسيسية لمبادرة عمّان مدينة تعلّمية
ومضيافة.
ربّما نجح فريق الملتقى بترحيبه المعتاد وجوّ الملتقى المضياف أن يسهّل
عليّ الانخراط في الاجتماع أكثر لكنّني دائما كانت تشدّني وسائد
الأريكة في غرفة الاجتماعات والحكم المطرزة عليها وكأنها تقول لي :
بإمكانك أن تلتمس الحكمة من النوم ! ولسبب ما تذكّرت القصّة التي كتبها
في الأعلى وتذكّرت طعم التين...
وعندما كنّا نناقش مع الفريق التحضيري أو الهيئة التأسيسية - أو
المجموعة الرائعة من كلّ الأعمار والتي تجعل من مسمّياتها كمجموعة أمرا
ثانويا - لمبادرة عمّان مدينة تعلّمية ومضيافة عن أهمّية عمليّة
التعلّم وعن قيمة خلق الكرم وعلاقة كليهما بالمساحات المهجورة في عمّان
والخبرات غير المستغلّة من فنّانين ومعلمين وحرفيين وعن فكرة فرصة
التعلّم وأهمية أن يكون هناك خارطة تحوي فرص التعلّم في عمّان وأن تكون
متاحة للجميع وعن كلّ ما يزيد في سلوك التعلّم ويساهم في أن تستأنس
مرافق المدينة أكثر بأهل المدينة وأن يحتفي أهل المينة أكثر بمرافقها
في مناكفات لا تخلو من ودّ و تقدير لشركائنا من أمانة عمّان المدينة
التي من أجلها اجتمعنا ومن أجل أهلها أطلقنا مبادرتنا التي أخيرا صار
لها اسمها بعد عدّة لقاءات وحوارات ومناقشات مرّتين في الشهر....
واسمها الآن (جيرة).. عمّان مدينة تعلّمية ومضيافة .
وكلّما سألني أحدهم عن المبادرة وماذا نفعل تعود ذاكرتي لقصّة "عمّي
الختيار والتينة الفجّة" ...لعلّه إذ كان ينهى أمّي عن تعليمي ويريدها
أن تتركني أتعلّم لوحدي ... رمز للتراث الإنساني بماء البئر الذي نجمعه
ونراكمه ونجده وقت الحاجة ... ولعلّه أيضا قصد الحكمة الإلهية والأديان
بماء المطر الذي ينزل رحمة وغيثا ... نعم وأظن ماء الينابيع هو تجربة
التعلّم والحكمة المكتسبة من المراقبة والتجربة والحياة ... لكن ما
الذي كان يقصده بماء البلديّة ! ...
جيرة عمان – نورالدين شبيطة
|